امل مصر تقرأ فى الحلقة الأخيرة من كتاب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل و
ينتهى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل من كتابه مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان، وفى الحلقة الأخيرة يتحدث الكاتب الكبير حول قضية التوريث التى شغلت بال الجميع ليس فى مصر فقط، بل على مستوى العالم منذ سنوات، فيقول هيكل:
كانت قضية «التوريث» هى الدليل والإثبات الأظهر لمقولة أن الذين يعرفون كل شىء عن «مبارك» هم فى الواقع لا يعرفون شيئاً عنه!!
فلقد توصل كثيرون ممكن يعرفون «مبارك» إلى أنه يريد توريث ابنه الأصغر، وأن ذلك مشروع يعمل جاداً لتحقيقه، ولم أكن واحداً من الذين يعرفون «مبارك» ومع ذلك فقد كان إحساسى- دون دليل يسنده – أن الرجل فى حسه الداخلى الدفين لا يريد ذلك، لا بتفكيره ولا بشعوره، بل لعله ينفر من الحديث فيه، لأنه يذكره بما يتمنى لو ينساه!!
وبمعنى أكثر وضوحاً فهو لا يمانع أن يرث ابنه رئاسته، لكن تصرفاته تشى بأنه ليس مستعداً أن يحدث ذلك فى حياته، وهو فى مأزق حقيقى، لأنه بذلك الحال فى وضع رجل قبل ولا يقبل، يقبل بغير أن تكون إرادته حاضرة فى القبول، ولا يقبل مادامت إرادته حاضرة!!
والقريبون منه يضغطون عليه ويواصلون الضغط، وإصرارهم أنه إذا لم يحدث التوريث فى حضوره وإرادته، فإن تحقيقه ضرب من المستحيلات فى غيابه وغياب سلطته!!
والعقدة أن الرجل ليس مستعداً فى قرارة نفسه، لكنه يجارى ويبدى من الإشارات ما يفيد معنى القبول، وهو يماطل ويراوغ ولا يقولها «نعم» صريحة أو «لا» قاطعة، لأنه مرات مثل لمس الحرير، و«ثقيل» أحياناً بوزن طن من الحديد!!
◄وفى هذه الفقرة يتحدث الكاتب الكبير، عن مواصلة الحديث عن التوريث، والسيناريوهات المعدة لذلك، ولعل أبرز هذه الخطوات التى عجلت بالحديث أكثر عن التوريث، يوم عجز الرئيس «مبارك»، عن إلقاء حديثه أمام مجلس الشعب فى شهر نوفمبر 2003، فيروى هيكل، قائلاً:
وفى تلك الأحوال راجت أحاديث عن خطط ترسم، وسيناريوهات تعد، ولا تنتظر إلا مناسبة مواتية أو تبدو مواتية، ثم يطرح المشروع نفسه، وتمر المناسبات ولا شىء يحدث!!
ووصل الإلحاح على الخطط والسيناريوهات إلى حد الجزم بأنه كاد أن يتحقق فعلاً يوم عجز الرئيس «مبارك»، عن إلقاء حديثه أمام مجلس الشعب فى شهر نوفمبر 2003، فقد قيل والرواة من الداخل أنه حين عجز الرئيس وكاد يسقط على الأرض وتأجلت الجلسة قرابة ساعة فى انتظار مقادير خارج حساب البشر – خطر ببال أحد «أبرز» رجال الحاشية أنه فى حالة حدوث المكروه الذى كان يحوم حول القاعة التى نقل إليها «مبارك» مُحاطاً بأطبائه – أنه من المتصور أن يدخل رئيس مجلس الشعب ليلعن أن قضاء الله نفذ، وبينما المجلس مأخوذ بالمفاجأة، غارق فى الدموع والأحزان – يتقدم عدد من نواب الحزب الوطنى باقتراح مبايعة الأبن وفاء للأب وتكريماً له واستمراراً لمنهجه، ولم يكن الشك يخالج أصحاب هذا الاقتراح فى أن التصويت عليه بالموافقة سوف يكون ساحقاً.
والمدهش – وهذا الجزء من الرواية تسنده شواهد – أن أصحاب هذا الاقتراح تداولوه همساً، بينما كان أطباء «مبارك» يحيطون به يرسمون القلب، ويقيسون النبض، ويغرسون الأبر، وغيرهم مشغول بما بعد ذلك إذا فشلت جهودهم، وللدقة فليس فيما سمعت أن أحداً فاتح قرينة الرئيس «مبارك» فى هذا الأمر أثناء الأزمة، فقد شاء من تداولوا الفكرة «ألا يسببوا لها حرجاً أثناء لحظات قلقها، وقد مضوا فى تصرفهم، حتى جاء أحد الأطباء يقول لهم يعود لإنهاد خطابه، حرصاً وتجنباً للأقاويل، لو أنه خرج من المجلس دون أن يراه أحد من النواب الجالسين فى قاعة مجلس الشعب!».
وفات الفرصة لكن الحالمين بالخطط والسيناريوهات لم ينسوا، فقد بدت لهم فرصة – وتكرر نفس الخاطر عندما قصد الرئيس «مبارك» إلى «هايدلبرج» لعملية جراحية ظنوها غير مأمونة – وتكرر نفس الشىء عندما بدأ التفكير فى الرئاسة الخامسة لـ«مبارك» واقتراح الحالمين هذه المرة أن يجئ الرئيس فى اللحظة الأخيرة ويوجه خطاباً مؤداه «أنه لاعتبارات العمر والصحة يقدم لهم ابنه بديلاً له» لكن المحاولات كانت تصل إلى نقطة معينة، ثم يبدو فجأة أن اندافعها يتباطأ، وأن خطاها تتعثر حتى تتعطل تماماً، وتدور العجلة كما ظلت تدور منذ سرت فكرة التوريث على استحياء مع مطلع القرن الحادى والعشرين!!
ومع أنى أثرت قضية «التوريث» مبكراً فى محاضرة شهيرة فى الجامعة الأمريكية «مساء يوم 18 نوفمبر 2003»، وقد لمحت وسمعت ما يثير التوجس والريبة، كما لمح وسمع غيرى فيما أظن – إلا أن أحداً لم يكن متأكداً من الطريقة أو من الموعد الذى يتجلى فيه الشك، ويرتفع الستار!!
◄ويتناول هيكل فى حديثه عن خطة التوريث، علاقة السلطان قابوس بعائلة مبارك، ومعرفته بهذا المشروع الذى يعد لوصول جمال مبارك إلى حكم مصر، فيقول هيكل:
وفيما يعرف العارفون والأغلب أنه الأقرب إلى الصحة، فقد كان السلطان «قابوس» أول من سأل الرئيس «مبارك» عن مشروعه لابنه، وكان الابن قد عاش خمس سنوات تقريباً فى بيت يملكه أحد رجال الأعمال من حاشية السلطان فى حى «كينسنجتون» فى لندن، وبالتالى فإن «سلطان عمان» أصبح بين أوائل من عرفوا بخطط انتقال الابن من بيت «كينسنجتون» فى لندن إلى بيت الرئاسة فى القاهرة.
وكان رد «مبارك» على السلطان طبقاً لهؤلاء العارفين «أن قرينة الرئيس قلقة أن تطول إقامة ابنها فى لندن، ومن ثم تصعب عليه العودة إلى مصر، ثم إن بقاءه فى لندن ربما ينتهى بزواجه من إنجليزية أو أجنبية، وهى لا تريد ذلك، وأنها بحثت فى أوساط العائلات المصرية التى تعيش فى لندن عن عروس مناسبة لابنها، ولم تعثر على مرشحة تتوافر لها المواصفات التى تطلبها، لكنها سوف تواصل البحث هناك وهنا، آملة فى التوفيق!!
وكان السائل الثانى هو «معمر القذافى» الذى لاحظ ظهور الابن منتظماً على الساحة السياسية المصرية «ولعل الموضوع كان يهمه كسابقة مضاعفة إلى ترسيخ منطق التوريث فى النظام الجمهورى»، وكذلك جاء سؤاله مباشراً – وربما فجا – عما إذا هناك تفكير فى التوريث على طريقة «بشار»، لكن الرئيس «مبارك» استنكر، وفاجأ «القذافى» بقوله: «إن تجربة «بشار الأسد» غير قابلة للتكرار فى مصر، وأن مصر ليست سوريا، وأيضاً فإن النظام فى مصر جمهورى، والنظام الجمهورى لا يعرف توريثاً للحكم». ثم كان بعدها أن الرئيس «مبارك» أعلن هذا الرأى على الملأ.
وأضاف «مبارك» لـ«القذافى»: «أنهم فى رغبتهم لاستعجال عودة الابن – رأوا إغراءه بشاغل جديد يستهويه، وأنهم أعطوه بعض المهام السياسية «يتسلى بها»، «فلا نصحوا ذات يوم فإذا هو يفاجئنا بأنه عائد إلى لندن، ثم نسمع أنه تزوج واستقر هناك!!».
◄ويستطرد هيكل فى الحديث حول اهتمام عدد من الرؤساء والملوك والأمراء بمعرفة حقيقة الأمر حول التوريث فى مصر، ورغبتهم فى المسألة على حقيقتها، فيروى هيكل:
وبالفعل فإن «مبارك» (الأب) كان محقاً فى مخاوفه، لأن الابن حتى عندما عاد من لندن، جاء ومعه مشروع زواج من فتاة نصف بريطانية ونصف إيرانية، وقد لحقت به الفتاة ونزلت فى بيت للضيافة شهوراً، ثم استطاع «حلم الرئاسة» أن يزيح «خيالات الغرام»!!
وكان السائل الثالث أجنبياً، هو الرئيس الفرنسى «چاك شيراك» وجاء سؤاله أثناء لقاء بين الرجلين فى قصر «الإليزيه» فى باريس فى فبراير سنة 2004، وجاء رد «مبارك»: بأن كل الذين يتردد فى هذا الصدد شائعات ينشرها بعض الصحفيين، وهدفها الإساءة إليه «إلى الأب» بينما كل ما حدث أنه يستعين بابنه فى إدارة مكتبه كما يفعل الرئيس «شيراك» نفسه مع ابنته.
ويومها وافقه الرئيس «شيراك» على أنه بالفعل يستعين بابنته «كولد» واختارها فعلاً مساعدة له، مختصة بالعلاقات العامة.
ومع اللغط المتزايد حول قضية التوريث فى مصر، فإن الأسرة الحاكمة السعودية أبدت اهتماماً واضحاً، وكذلك فإن أحد كبار أمرائها وجه السؤال إلى الرئيس مباشرة، وسمع رده:
– أنه لا يريد التوريث لابنه، وأول الأسباب أنه لا يريد أن يورث ابنه «خرابة»، وكان الرد مفاجئاً لسامعه!!
لكن يبدو أن الساسة البريطانيين كانوا يعرفون أكثر، فقد جرى اتصال مع السفير البريطانى فى القاهرة سنة 2002، وهو يومها السير «چون سوير» john sawyer، (وهو يشغل الآن منصب المدير العام للمخابرات البريطانية الخارجية)، لسؤاله «إذا كان يمكن الترتيب لعلاقات أوثق بين نجل الرئيس وبين القيادة فى حزب العمال البريطانى الجديد؟
وكان الابن وقتها قد بدأ الخروج والظهور على الساحة السياسية ضمن ما سُمى بعملية تجديد شباب الحزب الوطنى، وانطلاقة الفكر الجديد فى أمانة السياسات، وعليه فقد كان داعى الطلب امصرى هو الاهتمام بتجربة «تونى بلير» الذى بدا لمن يعنيهم الأمر فى القاهرة، شابا نجح فى النزول بـ«البراشوت» على رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء، وظن هؤلاء المعنيون بالأمر فى القاهرة أن «بلير» نموذج مدهش يستحق النقل عن أعرق البلدان الديمقراطية!!.. وعاد السفير البريطانى يحمل رداً بالموافقة والترحيب.
(ولم يكن «چون سوير» سفيراً عادياً لبريطانيا فى القاهرة، وإنما هو فى الأصل «رجل مهام خاصة»، وكان تعيينه فى سفارة القاهرة اختياراً لما هو أكثر من سفير، فقد كانت مهمته الحقيقية أثناء وجوده فى العاصمة المصرية هى التمهيد والتحضير السياسى لعملية غزو العراق سنة 2003، وبالفعل فإنه ما كاد الغزو يبدأ حتى نقل «سوير» من «القاهرة» إلى «بغداد» ممثلاً لبريطانيا على قمة سلطة الاحتلال فى «بغداد»، لكنه عجز عن إثبات وجوده، لأن المفوض الأمريكى للاحتلال «بول بريمر» لم يكن يريد شراكة بريطانية، وإنما يريدها علما أمريكيا لا ترتفع بجانبه أعلام!!).
ورحب الجميع فى حزب العمال وفى رئاسة الوزراء بما طلبوه فى مصر، واهتم «تونى بلير» بالذات، لأن السياسة البريطانية راودتها فى ذلك الوقت أوهام نفوذ خاص فى مصر مع تكليف المجموعة الأوروبية لها (بريطانيا) مهمة رعاية التنظيم السياسى والتطوير الإعلامي، ضمن خطة تحرك على جبهة عريضة نحو العالم اثالث والشرق الأوسط بالتحديد، وكذلك فإن مهمة الاتصال مع لجنة السياسات فى الحزب الوطنى وأمينها («مبارك» الابن) عهد به إلى «بيتر مندلسون»، وهو المسئول الأول عن الحملات الانتخابية، وقد نجح فيها على امتداد ثلاثة انتخابات فاز بها «تونى بلير»!!
واستقبل «بيتر مندلسون» فى القاهرة بحفاوة (حتى بعد أن ترك منصبه فى وزارة التجارة فى حكومة «بلير» بسبب شبهات حول علاقاته برجال الأعمال!!) – ثم أصبح «مندلسون» زائراً بانتظام للقاهرة، بدعوة من أمانة الشباب فى الحزب الوطنى، كما أن وفود أمانة السياسات لم تنقطع عن لندن، وكان بين ملاحظات «مندلسون» وقد سمعتها نقلاً عنه «إن مضيفيه المصريين مهتمين جداً بقسمين بالذات فى تنظيم حزب العمال الجديد: غرفة الدعاية، وغرفة العمليات السوداء، أى المتعلقة بالمهام القذرة (كذلك يسمونها)!!».
ثم حدث أن الرئيس «جورج بوش» الابن سأل الرئيس «مبارك» فى الموضوع آخر مرة زار فيها واشنطن فى عهده، ورد عليه الرئيس «مبارك» ضاحكاً: ألم يكن والدك رئيساً ثم جئت أنت هنا بعده؟!!» – ورد «بوش»: «إن ذلك كان بالانتخاب الحر، وأن هناك فاصلات مدته ثمانى سنوات، من إدارة «كلينتون» باعدت بين رئاسة الأب ورئاسة الابن!».
ومع أن «مبارك» لم يشأ فيما يبدو أن يناقش أكثر مع «چورچ بوش»، فإن السفارة الأمريكية أيام تولاها السفير «ريتشاردونى» راحت تتابع جهود التوريث فى القاهرة، وتنقل فى برقياتها (وقد أذيع الكثير منها ضمن مجموعة «ويكيليكس»)، تكهنات متزايدة حوله، بما فى ذلك أحاديث منقولة عن أصدقاء لـ«مبارك» (الابن)، وكانت أحاديث هؤاء الأصدقاء صريحة فى أن التوريث قادم لا محالة، ولن يوقفه شىء، ولا حتى ما يبدو من تحفظ المؤسسة العسكرية حياله!!
◄ويفجر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل مفاجأة من العيار الثقيل عندما يتحدث حول برقيات ويكيليكس، من خلال أسماء سالت حول موضوع التوريث ولكن تم حذف أسماؤها، فيكشف عن السفير ريتشاردون قوله إنه سمع أن المشير طنطاوى يعارض فكرة التوريث، فيقول هيكل:
وتحكى برقيات «ويكيليكس» نقلاً عن السفارة الأمريكية فى القاهرة أن بين هؤلاء الأصدقاء (وقد حذف القائمون على نشر الوثائق السرية أسماءهم عندما نشروها حفاظاً عليهم، وإن كانت أسماؤهم قد تسربت فيما بعد) – أنه عندما ألح السفير «ريتشاردون» على بعضهم بقوله: «إنه سمع أن المشير «طنطاوى» شخصياً يعارض التوريث لأسباب كثيرة لدى المؤسسة العسكرية فى مصر» – كان ردهم وبثقة زائدة «أن «مبارك» يستطيع إعفاء «طنطاوى» من منصبه فى خمس دقائق، وقد قام أحدهم بتذكير السفير الأمريكى قائلاً: إن «طنطاوى» ليس أقوى من »أبوغزالة»، وقد رأيتم بأعينكم كيف تمكن «مبارك» من إعادة «أبوغزالة» إلى بيته عندما أراد ذلك، ولم يستغرق منه القرار جهداً، ولا ترتبت عليه متاعب فى القوات المسلحة – كما يردد المتشككون فى المعادين للابن الآن!!».
على أن الأنباء راحت تتسرب من محيط الرئاسة ذاته، بأن الرئيس أفصح لمن زاد إلحاحهم عليه أنه لا يستطيع مجاراة ما يطلبون منه، وأن عليهم تخفيف الضغط لأن المؤسسة العسكرية ليست راضية عن «التوريث»، وهو يقوم بكل ما يستطيع من جهد للإقناع وللتحضير، لكن المقاومة مستعصية، والمسألة ليست بالسهولة التى يتصورها من يلحون عليه بأنه «الآن» لينفذ ما يطلبون، وإلا ضاعت فرصته.
وتسربت فى محيط الرئاسة قصص وروايات عن مشاجرات علت فيها الأصوات.
وكانت الحقيقة معقدة.
صحيح أن المؤسسة العسكرية بالفعل كانت تعارض، وقد أرادت أن تجعل معارضتها معروفة لدى الرئىس «مبارك».
إلا أن الصحيح أيضاً أن «مبارك» استخدم ما بدا له من معارضة المؤسسة العسكرية وكرره وضغط عليه، لأنه وجد فيه ما يوافق شعوراً غامضاً فى أعماقه ينفر من حديث «التوريث»!!
وفى الحقيقة فإن تحفظ المؤسسة العسكرية على «التوريث» ورد ضمناً أثناء الاستفتاء على تعديلات دستورية جرى تفصيلها خصيصاً على مقاس الوريث سنة 2006، وجرى إقرارها وسط معارضة متزايدة، ورفض شعبى واضح، جعل المشير «محمد حسين طنطاوى» يبدى رأيا، مؤداه «أنه وكل القادة يرجون الرئيس مراعاة قاعدة مستقرة فى السياسة المصرية تنأى بالقوات المسلحة عن أى دور يفرض عليها احتكاكاً بالداخل السياس».. (وذلك تعهد وقع تخطيه مرة واحدة من قبل أثناء مظاهرات الطعام 17 و18 يناير 1977، اتسع نطاقها وخرجت عن سيطرة البوليس، ويومها وكان المشير »محمد عبدالغنى الجمسى« وزيراً للدفاع، وكان شرطه لتدخل القوات المسلحة واستعادة سيطرة الدولة أن يُعلن عن إلغاء الزيادات فى الأسعار، وبعدها وحين يزول السبب الذى أدى إلى اندلاع المظاهرات – تقوم القوات المسلحة بالمساعدة على إعادة الاستقرار والسلام الداخلى للوطن!!).
والآن كانت الرسالة الواضحة فيما قاله المشير «طنطاوى» أن القوات المسلحة لا تريد أن يزج بها فى مشاكل داخلية قد تنشأ من رفض شعبى لقبول «التوريث».
◄ويتناول هيكل واقع التحذيرات التى تلقاها مبارك حول موضوع التوريث من المؤسسة العسكرية دون أن يبدى ضيقاً من هذا، فيتحدث الكاتب الكبير قائلاً:
لكن الغريب أن الرئيس «مبارك» لم يظهر منه ضيق بهذا التحذير، وكانت كثرة إشارته له دليل على أنه لاقى شيئاً بالقبول عنده، وتلك قضية تحتاج إلى بحث نفسى يصل إلى العمق البعيد عما هو كامن ومكبوت!!
والأشد غرابة أن الرئيس «مبارك نفسه كان بين الذين شعروا أن الهمة الزائدة فى البحث عن عروس مناسبة للابن كانت جزءاً من عملية تأهيله لإرث الرئاسة، باعتبار أنه من الاصعب على مجتمع محافظ مثل المجتمع المصرى أن يقبل برئيس «أعزب»!!
وكالعادة فإن كل فعل له رد فعل، كما أن كل تصرف مخالف للطبيعة له ضرائبه المضاعفة، ومن ذلك أن أصبح شائعاً على نحو مقلق أن حديث «التوريث» أثر سلباً فى أجواء الأسرة الرئاسية، لأن الابن أكبر أحس أن الأصغر نال الحظوة، وبدأت بين لاأخوين جفوة تحولت إلى هوة، ورغم السواتر من كل نوع فقد رأى الناس طرفاً من مظاهر تردى العلاقة بنى لاأخوين، فالأخ الأكبر – الذى يعتبر نفسه صاحب الاستحقاق الطبيعى (إذا كان هناك حق) – راح ينتهز الفرصة ليؤكد وجوده، ولعله اختار مجال الرياضة لظهوره، وفيها ملاعب كرة القدم وهو من عشاقها (وبالتالى فهو الأقرب إلى جماهيرها وهم حزب أغلبية فى البلد).
وفى مباراة مصر والجزائر خرج الابن الأكبر على الناس بما تصوره تعبيراً عن الوطنية المستثارة – دون داع – حتى وصل إلى حد الطلب علنا من السفير الجزائرى أن يرحل عن مصر، ويتحداه على شاشة التليفزيون موجهاً له الخطاب: ماذا تنتظر لترحل؟!، ويضيف ألفاظاً تسيء للعلاقات بين البلدين بكل تأكيد، وزاد على ذلك أن الابن الأكبر راح يكثف حملاته وظهوره على الساحة العامة، بما فيها لقاءات ودية – غير معلنة – مع بعض الكتاب المعروفين بمعارضتهم للأخ الأصغر وتوريث الحكم له!! – وكان ذلك مناخاً مقلقاً فى بيت الرئاسة إضافة إلى توترات أخرى!!
ووصلت العلاقات بين الأخوين إلى مشاهد مؤسفة، لابد أن واقعها كان قاسياً على الأب!!
◄ويتناول هيكل فى هذه الفقرة خطوات عملية التوريث فى السنوات الأخيرة، متحدثاً أن مبارك نفسه راوده من الشك والارتياب أن هذا المخطط ربما سيمر حتى دون موافقته، فيروى هيكل:
والمدهش أن الرئيس «مبارك» راوده الإحساس بالتوجس والارتياب، حين وصلت إليه نتائج انتخابات مجلس الشعب الأخيرة أواخر سنة 2010، فقد أحسن – ربما – أن هناك محاولة لتمرير مخطط التوريث، حتى دون موافقته وحتى أثناء حياته فقد لاحظ أن حجم الأغلبية التى حصل عليها الحزب الوطنى فى مجلس الشعب زائد عن احد، ولعل هذه الزيادة – أوحت لعقله الباطن – أنها تمهيد لتوريث قد يُفرض عليه هو فرضاً – وبقرار من البرلمان الجديد عندما يحين موعد اختيار ملجس اشعب لمرشح الأغلبية للرئاسة فى موعد أقصاه يوليو 2011.
ومن المفارقات أن بعض المراقبين أدهشهم أن الرئيس «مبارك» تراجع بسرعة أكثر من اللازم – فى تقديرهم – ثم استسلم دون مقاومة جدية لمطلب التنيح بعد ثوة 25 يناير 2011 وكان بينهم من وجدوا لذلك تفسيراً، مؤداه أن الرئيس «مبارك» أراح نفسه وتنحي، وهو لم يتنح لنفسه فقط وإنما أزاح ابنه وسط الزحام قبل أن يخرج هو من الصورة عندما عسن السيد «عمر سليمان» نائباً للرئيس، وكانت الحوادث أسرع من الجميع!!
◄ويتناول هيكل انشغال قوى خارجية بمسألة التوريث خصوصاً فى أواخر عام 2010، ومن أبرزها كلية الحرب الأمريكية التى أعدت تقريراً حول هذه المسألة، وفيه يقول هيكل:
ومن المفارقات أن قضية التورريث كانت الشاغل الكبير لقوى خارجية مهتمة بالشأن المصرى، أولاها الولايات المتحدة الأمريكية، والشهد أن مراكز المخابرات المدنية والعسكرية فى الولايات المتحدة وطوال أحاديث «التوريث» خصوصاً فى الأشهر الأخيرة من سنة 2010 ركزت على الموضوع، وكرست جهوداً، وخصصت لجاناً ومؤتمرات تبحث تصورات ما يمكن أن يجرى فى مصر بعد «مبارك» وربما أن أهم تقرير أعد وقتها هو تقرير التقديرات فى كلية الحرب الأمريكية للجيش الأمريكى (S.S.I).
ومن الملاحظ أن هذا التقرير صدر بتاريخ سبتمبر 2011، ومع أن الحوادث فى مصر سبقته – فإن كلية الحرب الأمريكية نشرته، واعتبر ما فيه سارياً، حتى بعد استبعاد احتمالين بين السيناريوهات الخمسة التى تصورتها لما بعد «مبارك».
استبعدت أن يواصل «مبارك» نفسه السلطة «مرة سادسة كما كان اتجاهه واتجاه الحرس القديم فى الحزب الوطنى».
-أو أن يرث ابنه عنه رئاسة مصر «كما كان يريد الابن، ويريد معه من سموا أنفسهم بالحرس الجديد».
ثم طرح التقرير ما تبقى من تصورات، مركزاً على التيار الإسلامى «الإخوان والسلفيين»، وبين القوات المسلحة، وبين عدد من الشخصيات والتنظيمات الحزبية أو المستقلة، لكن التقرير الأمريكى لم يقطع بنهاية محددة للصراع، مما يضع الولايات المتحدة وسياساتها تجاه مصر فى وضع ترقب وتحفز كل الجبهات، ذلك أن السياسة الأمريكية ومعها تقديرات القيادات العسكرية الأمريكية بالذات تعتبر مصر بداً بالغ الأهمية بالنسبة لها، فهى القاعدة التى ترتكز عليها حركتها فى المنطقة كلها، والمقولة الاستراتيچية المتكررة بإلحاح فى جميع التقديرات ولدى كل مراكز صناعة القرار هى «أن مصر لا يجب أن تضيع من يد الولايات المتحدة الأمريكية مهما كانت الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك، ومهما كانت درجة المرونة أو العنف فى الممارسة السياسية الأمريكية ضماناً لتحقيقه!!».
وكذلك فإن السياسة الأمريكية مضت تلاحق الحوادث، وتتعامل مع التطورات، وتتحرك بكل طاقاتها، والهدف المطلوب بإلحاح «مصر يجب ألا تضيع من يد الولايات المتحدة مرة أخرى» – وذلك هو الشبح المعلق على أفق المستقبل فى مصر – هذه اللحظة الخطرة من التاريخ!!