من الريف إلى التصدير: رؤية تحويل المجتمعات الريفية إلى مراكز صناعية

بقلم: ياسر غنيم مستشار التصدير بالاتحاد الدولي لرجال الأعمال والمستثمرين العرب
وعضو الغرفة التجارية شعبة المصدرين
في ظل ما يشهده العالم من تحديات اقتصادية متسارعة، لم يعد الاكتفاء بالحديث عن التنمية كافيًا، بل أصبح من الضروري الانتقال إلى صناعة التنمية، ومن تبادل الأفكار إلى اتخاذ قرارات حاسمة، ومن إدارة الموارد إلى تعظيم القيمة المضافة لها. ومن هنا تبرز قضية تطوير الريف لا باعتبارها عبئًا تنمويًا، بل كإحدى أهم الفرص الاقتصادية غير المستغلة.
لقد ساد لسنوات طويلة تصور تقليدي ينظر إلى الريف باعتباره منطقة إنتاج أولي تحتاج إلى دعم دائم، بينما تؤكد التجربة الواقعية أن المجتمعات الريفية تمتلك مقومات حقيقية للتحول إلى مراكز صناعية إنتاجية مؤهلة للتصدير، بما تمتلكه من موارد طبيعية، ومحاصيل زراعية متنوعة، وخبرات بشرية متراكمة لم تُستثمر بعد بالشكل الأمثل.
جذر المشكلة: غياب التصنيع داخل موقع الإنتاج
لا تكمن الإشكالية الأساسية في ضعف جودة المنتج الزراعي ولا في نقص الجهد المبذول، وإنما في غياب التصنيع داخل موقع الإنتاج، وهو ما يؤدي إلى تصدير المنتجات في صورتها الخام، وفقدان نسبة كبيرة من قيمتها المضافة، إلى جانب إهدار فرص عمل حقيقية وعوائد تصديرية أكبر.
إن تصدير المواد الخام يعني عمليًا تصدير فرص العمل، وتفويت فرصة بناء سلاسل قيمة متكاملة قادرة على تحقيق نمو اقتصادي مستدام داخل الريف نفسه.
الرؤية العملية: التصنيع الزراعي داخل الريف
تنطلق هذه الرؤية من إدخال منظومة التصنيع الزراعي إلى قلب الريف، عبر إنشاء محطات متخصصة للفرز والتعبئة والتغليف والتصنيع الأولي، تعمل وفق معايير جودة واضحة ومعتمدة، وتخدم نطاقًا جغرافيًا من القرى والمراكز.
يسهم هذا النموذج في تقليل الفاقد الزراعي، ورفع كفاءة الإنتاج، وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية في الأسواق الإقليمية والدولية، مع ضمان ثبات الجودة وتوحيد المواصفات بما يتوافق مع متطلبات التصدير.
التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر
لا يقتصر هذا التوجه على البعد الاقتصادي فقط، بل يقوم على نموذج تنموي متوازن يراعي الاستدامة البيئية، من خلال الاستخدام الرشيد للطاقة والمياه، وتشجيع إعادة تدوير المخلفات الزراعية، والاعتماد على الحلول الذكية والتحول الرقمي في الزراعة والإنتاج.
ويمثل الدمج بين التصنيع الزراعي والاقتصاد الأخضر فرصة حقيقية لتحقيق نمو اقتصادي يحافظ على الموارد الطبيعية ويعظم العائد منها في آن واحد.
الإنسان أولًا: الاستثمار في رأس المال البشري
يبقى العنصر البشري حجر الأساس في نجاح أي نموذج تنموي. فالتدريب وبناء القدرات ونقل المعرفة التطبيقية للمزارعين والعاملين يمثل ركيزة رئيسية لضمان جودة الإنتاج واستدامته، وتحويل المجتمع الريفي من متلقٍ للدعم إلى شريك فاعل في منظومة الإنتاج والتصدير.
جاذبية النموذج الاستثماري
من منظور استثماري، يتمتع هذا النموذج بانخفاض المخاطر، ووضوح العائد، وقابلية التوسع والتكرار، في ظل توافر المواد الخام بشكل مستدام، واستمرار الطلب التصديري على المنتجات الزراعية المصنعة.
كما يتيح هذا النموذج تحقيق عوائد متدرجة وسريعة مقارنة بالاستثمارات الصناعية التقليدية، فضلًا عن قدرته على بناء شبكة إنتاجية متكاملة تدعم الصادرات الوطنية، وتوفر فرص عمل مستقرة، وتحقق تنمية اقتصادية متوازنة بين الريف والحضر.
الإطار المؤسسي والشراكة المطلوبة
يتطلب نجاح هذه الرؤية إطارًا مؤسسيًا واضحًا، يقوم على الحوكمة الرشيدة والإدارة الاحترافية، وتكامل الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المحلي، مع توفير أدوات التمويل المناسبة، وآليات فعالة للربط المباشر بالأسواق التصديرية.
الخلاصة: قرار يصنع الفارق
إن الريف لا يحتاج إلى مزيد من الدراسات بقدر ما يحتاج إلى قرار واعٍ وشجاع يعيد توجيه الاستثمار نحو مواقع الإنتاج، ويحوّل الإمكانات القائمة إلى إنجازات ملموسة. فالفرصة متاحة، والقيمة موجودة في الأرض والإنسان، ويبقى الرهان الحقيقي على من يمتلك الإرادة لتحويل هذه الرؤية إلى واقع اقتصادي مستدام